وإن كنت سمعت الكثير من الأفكار الفلسفية سابقا وأدهشتك فعليك بقراءة هذه حالًا لتتعرف نوعا آخر من الدهشة في عالم الفلسفة الغريب.
إنك لو بحثت سوف تجد أن الأفكار الفلسفية لا تعد ولا تحصى، ثم ستجد العميق المدهش منها. أفكار التنوير، والمادية، والعبثية، والليبرالية، والوجودية. لكن دعني أعرفك هنا إلى
العدمية (Nihilism) الأكثرها دهشة. ويمكن تعريف العدمية على أنها فكرة رفض بعض أو جميع جوانب الحياة والفكر(1). ويعرّف قاموس التراث الطبي الأمريكي أحد أشكال العدمية على أنه "
شكل متطرف من الشك الذي ينكر كل الوجود."(2)
وحسب ما أرى إن ما يجعل فكرة العدمية الفلسفية مدهشة حقا هي تلك المعتقدات التي تحملها. فمثلًا؛ أصحاب
العدمية الأخلاقية يروون أن الأخلاق التي نحملها ما هي إلا نظرة شخصية مصطنعة لا تمت للمنطق بصلة، ثم أن وجودها أو الإفتقار إليها ما هو إلا سواء. ومن منظور آخر، يُرى أن العدمية الأخلاقية هي فقط صورة للأخلاق ذاتها، كتب
نيل كوبر:"
بالمعنى الأوسع لكلمة (الأخلاق)، العدمية الأخلاقية هي أخلاق."
هنالك العديد من الأنواع أو المواقف التي شملتها العدمية إلى جانب الأخلاقية، فهنالك
العدمية الوجودية التي تقول بأن لا معنى حقيقي للحياة. ثم
العدمية السياسية التي تنكر أي نظام أو توجه سياسي وترفض إقامة أي مؤسسة سياسية. وكذلك
العدمية الميتافيزيقية والمعرفية والكونية وغيرها.
ولا بد أن تُدهش حين تعلم أن العدمية ليس نتاجًا حديثا، فحسب نقاشات أجراها
بوذا في قديم الزمان كما هو مذكور في الكتب البوذية المقدسة، نجد أنه كان يحمل الكثير من الأفكار العدمية. فيرى بوذا أن السلوكات الجيدة والسيئة لا تسفر عن نتائج تذكر، ويؤمن أنه لا توجد معرفة مباشرة في العالم بإمكانها إثبات أن الكائنات بعد موتها تولد من جديد. لذا يظهر أن معتقدات العدمية وجدت منذ القِدم أو الأزل.
من المهم أن تعرف أيضًا أن من أكثر من ارتبط اسمهم بالعدمية هو الفيلسوف الألماني
فريدريك نيتشه؛ حيث نادى بتدمير القيم العليا والأخلاق الاجتماعية نظرًا لعدم جدواها. والجدير بالذكر أن نيتشه لم يكن من اختلق مصطلح الفكرة العدمية أو استخدمه بصيغته المباشرة، إلا أن حمْل رسائله لأفكارها كان كافيًا لخلق هذا الإرتباط في عالم الفلسفة. ثم لا بدّ للباحث أن يرى اسم الأديب الفيلسوف الروسي
فيودور دوستويفسكي متعلقًا بتاريخ العدمية، إلا أنه في الواقع ما كان إلا مؤسسًا
للوجودية في المجال الأدبي، والتي تركز على الإنسان كموضوع من خلال مشاعره وأفكاره ككل.(4)
لكن حذارِ مع هذه الصورة التي تظهر بها العدمية أن تشعرك بالتشاؤم والسلبية، هي فقط حصيلة النضج الفكري عند الإنسان عندما يعي العدم. وعليك أن تدرك كشخص امكاناتك فلا تتعدى حدودها بكسل أو نشاط مفرط لا ينفعك في الحالتين. وأن تعرف أن لكل شيء نهاية وأن هذه النهاية هي المغزى الوحيد لوجودك. ويؤكد لنا الفلاسفة أصحاب هذا الفكر أن عدم الإيمان بالعدم لا ينفي حقيقته، ثم أنه -العدم- لا شيء سوى الجهة المقابلة
للوجود.
والآن؛ ما مدى جدوى ما قرأته سابقًا بعد اطّلاعك على مفهوم هذه العدمية المدهشة؟
(1)
https://www.rep.routledge.com/articles/thematic/nihilism/v-1(2) "nihilism".
The American Heritage Medical Dictionary. Houghton Mifflin Harcourt. 2008. p. 363.(3) Cooper, Neil (1973). "Moral Nihilism".
Proceedings of the Aristotelian Society.
74 (1973–1974): 75–90.(4) John Macquarie,
Existentialism, New York (1972), pp. 14–15