نحن الآن نودع شهر البركة والخير، شهر العبادات والطاعات، شهر الخيرات والبركات. وقد واجهنا العديد من المصاعب هذا العام بدأت باستكمال عام آخر بالمواجهة مع جائحة كوفيد-19 والتي استمرت ونأمل أن تنتهي مع قرب انتهاء هذا العام. كان عامًا عصيبًا نوعًا ما علينا جميعًا، فمن إغلاق جزئي في بعض الدول العربية والعالمية، ومناورات واعتداءات على المسجد الأقصى، والعديد من الأحداث والحوادث الغريبة والجرائم غير المفسرة في دولنا العربية، إلى موت سارٍ يختطف الأحبة والأقارب والأصحاب، منها ما هو متعلق بالجائحة، ومنها ما هو موت متعلق بالأمراض، ومنها ما هو مفاجئ وكلها أسباب متعددة نهايتها الموت.
ونحن مع كل ما نواجهه نتمنى لحظة من الصفاء والسلام الداخلي، كان جًلُّها بالنسبة لي اليوم هي صورة رأيتها تعم وسائل التواصل الاجتماعي. نظرت لهذه الصورة وتأملتها، كم كانت جميلة، بسيطة ومعبرة. طفلان صغيران، لربما بلغا السنة أو السنة ونصف، يقومان بتسلق درج بالقرب من مسجد قبة الصخرة. أحدهما قد وصل تقريبًا لأعلى الدرج، والآخر يتبعه بخطوات صغيرة وأمامهما تظهر إطلالة للقبة ومسجدها. وبالرغم من أن وجهي الطفلين غير ظاهر، إلا أنني على يقين بأنّ الابتسامة تعلو محياهما، وكأن النصر حليفهما. هنا توقفت للحظة، أتأمل وأقرأ ما وراء سطور الصورة، لأجد ابتسامة تفغر عن فمي في مقابل العديد من الصور المؤلمة الموجعة لأحداثٍ يعيشها أهلها في الجانب المحتل.
رأيت الجانب المشرق الذي قد لا يراه أحد منا، وسط الآهات والدموع والغضب، وسط التعب والمظاهرات والانتفاضات التي حدثت وتحدث. وهنا انتابني الفضول لأعرف، ما قصة حي الشيخ جراح؟ كيف بدأ وتأسس؟ ولماذا الآن يتم التعدي على هذا الحي وسكانه؟. يقع حي الشيخ جراح شرقي البلدة القديمة في مدينة القدس، وقد سمي بهذا الاسم نسبة للطبيب الجراح الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي محرر القدس، ومضمد جراحه في معاركه العديدة.
أنشئ الحي عام 1956 بموجب اتفاقية تم توقيعها ما بين وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والحكومة الأردنية بوساطة وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية، لمنح 28 عائلة فلسطينية مهجّرة من الأراضي المحتلة عام 1948 منازل مقابل مبلغ مالي رمزي يتم دفعه بشكل دوري، حتى يتم تمليك كافة المنازل في غضون سنوات، لكن لم يحدث ذلك حتى اليوم. تبلغ مساحة هذا الحي 808 دونمات، ويقدر عدد من يقطنونه بـ 2800 نسمة تقريبًا، ويتبع الحي إداريًا لبلدية الاحتلال في القدس، وهذا ما هو مستغرب، فهذه أراضٍ مستأجرة من الحكومة الأردنية حين جزئت القدس بعد حرب 1948 ، حيث كانت في ذلك الوقت تحت حكم الأردن لا السلطات المحتلة!
ينقسم لقسمين: قسم علوي منظم إداريًا ومقسم لفنادق ومطاعم ومقاهي ومكاتب قنصليات ومؤسسات مجتمع مدني منها مؤسسة دار الطفل العربي، وقصر إسعاف النشاشيبي، ومراكز طبية ومسجد الشيخ جراح وفندق الأميريكان كولوني، وعدد من القنصليات منها البريطانية والإيطالية والتركية. أما القسم السفلي يأوي هؤلاء اللاجئين منذ الخمسينات، ويعاني من نقص في البنية التحتية، ودومًا في مواجهة دائمة مع قوات الاحتلال والجمعيات الاستيطانية. ورغم ذلك جمعت البيوت أصالة االماضي بالهندسة الفخمة وغرف الاستقبال الفاخرة والشبابيك المزخرفة الشرقية، مع الأسطح القرميدية حديثة الإطلالت والشرفات مختلفة الأشكال والمطلة على الحي وبساتينه ذات المساحات الخضراء المميزة.
بقي الوضع جيدًا لهذه العائلات حتى عام 1957، لتغير الدولة المحتلة قواعد اللعبة، فسيطرت على الضفة الغربية ومنها القدس، وبقيت هذه العائلات التي أصبح عددها 38 عائلة دون أي إثبات أو سند ملكية للأرض، مما عرضهم ويعرضهم للتهجير الذي بدأ من ذلك الحين وحتى الآن، لتبدأ هذه العائلات مراحل متعددة لإثبات ملكيتها لبيوتها. حيث حاولت جمعيات يهودية بقيادة يهود الأشكناز وطائفة السفارديم عام 1972، تملك تلك الأراضي باللجوء لساحات القضاء، بادعائها امتلاك وثائق تؤكد حيازتها للأراضي التي أقيمت عليها منازل الحي، وتعود تلك الوثائق إلى أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك انتصرت العائلات عليهم. ثم أعادوا رفع الدعوى عام 1983 ضد 12 عائلة حول تملك الأراضي وحقهم كيهود فيها من عام 1885.
لجأت العائلات الفلسطينية لمحامٍ إسرائيلي للترافع عنهم، لكنه اعترف ضمنيًّا بحق المستوطنين الإسرائيليين في امتلاك الأرض مع بقاء أهل البيت فيه بعقد "مستأجر محمي" يتم دفع مبالغ مالية للإسرائيليي مقابل استئجاره. استمرت تلك المعارك لعدة عقود، مع تمكين إحدى العائلات الإسرائيلية عام 2008 من نصف بيت عائلة الكرد، ثم إخلاء بيوت عائلات حنون والغاوي، وما تزال المساجلات حتى اندلعت في شهر رمضان هذا العام 2021. والسبب محاولة طرد 4 عائلات فلسطينية من منازلها، واقتراب المحكمة المركزية من تحديد موعد الإخلاء لثلاث عائلات أخرى، ووجود قضايا في محكمة الصلح بالقدس على خمس عائلات أخرى.
لكن ومع كل هذا، وبالرغم من الاقتحامات والرصاص والاعتداءات، تظهر صورة هذين الصغيرين وكأنها تقول: ها نحن هنا، صغيران معًا نقتحم سلالم الأقصى، مسارعين نحو سجادة الصلاة، ملبين صوت المؤذن، مقتربين من مسرى الرسول، ومندفعين نحو أولى القبلتين. ها نحن ذا، في يوم ما، شهر ما، زمن ما، ستكون هذه الأسوار لنا، والقدس لنا، والأرض لنا. نحن هنا اليوم نحبي على أرض المعركة، وغدًا نحن نركض على ساحات الجهاد، فانتظري يا قدس انتظري، ونحن على موعد قريب يا أقصانا.