ترانا حقًا دائمًا ما نميل للمؤلفن الذين يتعمدون كشف الذات البشرية بتفاصيلها داخل أعمالهم. تلك التفاصيل التي غالبًا ما نخجل من البوح عنها حتى لأنفسنا. ترى الأمور النفسية ومعضلاتها العميقة مذكورة كثيرًا في أعمال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. وكذلك الكثير من الأفكار الفلسفية في أعمال الكاتب ميلان كونديرا.
دعني أحدثك عن الرواية النفسية في كتاب "مذكرات من منزل الأموات" لـ دوستويفسكي. يمكنك أن تشعر بمشاعر السجين التي يصفها الكاتب، كيف يعاني ويقاسي. وذلك ليس من منظور واحد، بل لعدة شخصيات داخل ذات الجدران الأربعة. يجعلك تتصور كيف يتسلى المساجين بخلق فنون خاصة بهم. تراهم يبدعون بالشتائم وبخلقها من اللامكان. وقدراتهم العجيبة التي تستمر بالتطور بسرقة الأشياء الصغيرة وإخفائها بمهارة، وكذلك المتاجرة بها. يصف لك دوستويفسكي مشاعر السجين حين يملك شيئًا، كيف يستلذ بتلك الأمور البسيطة.
وكذلك الأمر في روايته الأخرى "رسائل من تحت الأرض". حيث يصف فيها رجلًا منعزلًا كثير المرض، وشديد الوحدة. يقوم بكتابة مذكراته بهدف اختبار قدرته كبشري على أن يكون صريحًا مع ذاته. لم يكن ينتظر أحدًا كي يقرأها. وصف كل السوداوية الموجودة في داخله، وأعطى كل ما يكره أسوأ الصفات وقذفها بأبغض الشتائم. كل تلك الأمور التي كان لا يمكنه البوح بها خارج أوراقه.
ملأى هي أعمال دوستويفسكي بالتحليل النفسي، وأكاد أقول أن لا عمل له يخلو منها. ودائمًا ما كان دقيقًا رائع الوصف. وإن كان لهذا سبب فهو ما حمل داخلة من شدائد وملذات طوال حياته، واستطاع تفريغها بواقعية وتفاصيل دقيقة على الورق.
أما فيما يخص الرواية الفلسفية، ولعل أول ما يخطر ببال أي شخص هي رواية "عالم صوفي" لكاتبها جوستاين جاردر. والتي عرضت بكل بساطة تاريخ الفلسفة بأسلوب رائع.
يميل الكثير من كتاب هذا النوع من الروايات إلى رفض تسمية رواياتهم بالفلسفية. وأولئك أمثال ميلان كونديرا و أمبرتو إيكو. فيما يخص كونديرا مثلًا فإن رواياته تأخذ شكلًا مميزًا عن الآخرين، أي أنها لا تظهر بالمظهر التقليدي المعتاد. حيث ترى الكاتب قد تدخل بأحداث الرواية بشكل مفاجئ ليضيف رأيًا فلسفيًا خاصًا، ويعتبر نفسه كأنه أحد شخصيات العمل. وذلك أسلوب غير مألوف أبدًا.
من أكثر الأمور الرائعة التي تحويها الرواية الفلسفية هي الصدمة. حيث تجبر القارئ على أن يرى الأمور من زوايا أخرى لم يفكر بها سابقًا. وتعطي الحياة عمقًا آخرًا غير مألوف. فتراه أصبح يجأ أن يتمادى في أفكاره ومشاعره، وتحمله إلى مستوى آخر تمامًا. بذلك نجد أن الرواية الفلسفية هي أداة تكسير للروتينية والعادية، وأسلوب جديد لنظرة جديدة.
تميل الروايات النفسية للعاطفة، ربما تغرقك بالحزن، وربما تجعل السوداوية تغطي يديك الممسكة بالصفحات. وكذلك الأمر مع الروايات الفلسفية التي يملأها الجانب العقلي، فإذا هي أقرب ما تكون للتجريد. ورغم الاختلاف الظاهر بين النوعين، إلا أن كلاهما يشدان القارئ، ويملآنه شجاعة في قراءة ما لا يجرؤ على البوح به.