دومًا ما تتردد الغزو الثقافي الخارجي، وكأن الكائنات الفضائية ستقوم باكتساح عقولنا الفنية بنجاح، وكأننا لا نملك الوعي والإدراك الكافي لمصيرنا. في الحقيقة لا ننكر تأثير وسائل الإعلام باختلاف هويتها على الأفراد والجماعات، لكن لا أظن أن هذا التأثير قد بلغ مبلغه، وذاع صيته بالطريقة الموصوف بها. قد يكون الوعي ضعيفًا في الدول التي تخضع للعديد من الظروف الصعبة من احتلال أو فقر أو تتعرض لظروف جوية مستدامة، لكننا لسنا قُصّر أو أطفال يتم التلاعب بعقولنا، وغزونا ثقافيًّا بطرق مباشرة أو حتى غير مباشرة، فلنا العديد من الخيارات في رفض هذا الشكل من الاحتلال المبطن، ومما استرعى انتباهي، القدرة العجيبة لوسائل الإعلام على الزحف والالتواء والتلون والتخفي للتوصل إلى مآربه بطرق غير مباشرة، وضمن جرعات إعلامية لا دوائية لإحداث ذاك التأثير الثقافي بخطط متوسطة وطويلة المدى.
يمكن للثقافة والتكنولوجيا الخارجية أن تلامس ثقافة السكان المحليين الذين قد لا يعرفونها ومتخلفين عنها، وغير قادرين على منافستها، فيعتمد هؤلاء السكان اعتمادًا تامًا عليها. كما يمكن لهذه الحرب الثقافية غزو البلدان المتقدمة، مما يؤثر عليها بالسلب من خلال العواقب الاقتصادية والتي تظهر على شكل ديون واضطرابات في المجتمع.
ويمكن للغزو الثقافي أن يشكل خطورة على المجتمعات، حيث تتغلب الثقافة الغازية على ثقافة البلد المُستقبلة وتقوم على تدميرها، وخاصة على مجموعات السكان الأصليين الذين يحرمون من أراضي أجدادهم، ويتعطل أسلوب حياتهم، ويفقدون استقلاليتهم، ويصبحون غير قادرين على التكيف مع الظروف الاقتصادية المتغيرة، بالإضافة لوقوعهم فريسة الفقر وسوء التغذية والمرض، مما يؤثر على التنوع الثقافي في البيئات المجتمعية.
يظهر الغزو الثقافي من خلال إنشاء الشركات الكبرى والتكتلات الاحتكارية والصناديق الائتمانية، وتغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية للثقافات الأخرى دون دراستها بشكل جيد. وتظهر تأثيراته من خلال زيادة النزعات الاستهلاكية ونزعات تجاهل الهوية الوطنية والأسس الثقافية، ويكون ذلك من خلال المرافق الإعلامية والثقافية وأدوات الدعاية ووسائل الإعلام المختلفة.
لوسائل الإعلام التأثير الأكبر على المجتمعات عامة، وخاصة في العصر الحالي. فقد استطاع الأفراد من الأطفال وحتى الشيوخ وضع العالم في جيوبهم على شكل هاتف خلوي. لذا أصبح من السهل أن يقعوا في الفخ، ولا يوجد زاوية يمكن الإفلات منها، ولو تم ذلك لأصبح رتم الحياة بطيئًا ثقيلًا مملاً. مع ظهور العولمة بدأ التغريب يؤثر على الثقافة الغنية في كل بلد، وفرض الثقافات الغريبة التي يتناقلها المواطنون والأفراد من خلال سفرهم، وبزوغ عصر الإنترنت المؤثر، والتنوعات المختلفة في عصر الإنترنت. مما تناقل بعض العناصر الإيجابية تارة والسلبية تارة أخرى على العادات والأعراف في تلك البلاد. فبنقرة واحدة تم تقليص العالم بين أيدينا من خلال المواقع الاجتماعية التفاعلية، ومواقع التدوين، ومكالمات الفيديو والمؤتمرات، مما قرّب الجميع وعزز تفاعلاتهم مع بعضهم البعض.
يمكن رؤية مثال شهير على غزو البيئات الثقافية من خلال غزو الثقافة البريطانية لمنطقة شبه القارة الآسيوية. يمكن إدراك آثار هذا الغزو بشكل مباشر من خلال اهتمام سكان شبه القارة الهندية، بوعي أو غير وعي، بالنمط الثقافي والحياة للشعب البريطاني، وحتى اكتساب اللغة البريطانية على حساب اللغة الهندية الأصلية.
أدى الغزو الثقافي لأمة إلى أخرى إلى عواقب وخيمة. يمكن وصف تأثير الغزو الثقافي على مواطن أي أمة من خلال الآثار الواضحة على حياتهم الثقافية والاجتماعية في شكل التصرف اللغوي. حيث طغت لغة الغزاة على اللغة الأم، أو على الأقل أصبحت جزءًا منها.حيث أصبح السكان يتواصلون مع بعضهم البعض بها، مع القليل من اللغة الأم. ومن الأمثلة سيادة ثقافة التدوين باللغة الإنجليزية والتعليق في المدونات على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيادة بعض المصطلحات التي أصبحت من اللغة الدارجة بين الأفراد مثل كلمة OK و Bye و Hello، وغيرها من كلمات. كما أن صغارنا أصبحوا يتواصلون مع بعضهم البعض بهذه اللغة، وضعفت اللغة العربية جدًا وكياناتها اللغوية، وهذا ما أراه واضحًا في تواصل ابنتي مع ابنة خالتها على الماسنجر، فكل حديثهم باللغة الإنجليزية. وحتى أثناء تعبيرها عن نفسها ومشاعرها ومناقشتها تكون معنا باللغة الإنجليزية، لكنني أحثها على الحديث باللغة العربية وأحاول ترجمة بعض الكلمات لها باللغة الإنجليزية حتى تتمكن من ربطها باللغة العربية.
كما تظهر بعض التأثيرات الرئيسة للغزو الثقافي في اللباس وأسلوب السكان الأصليين نتيجة الإمبريالية أو السيطرة الأجنبية والتبعية على الشعوب والاستبدادية أحيانًا على الدول النامية. من خلال ارتداء الملابس أو الاكسسوارات أو تصفيف الشعر كما دول الغزاة، مما يشعرهم بالرضا النفسي. وهذا ظاهر في معظم الدول العربية في التخلي عن اللباس العربي التقليدي للجنسين، واتباع الثقافة الأجنبية في لبسهم وقصات شعرهم وخاصة في الأماكن الرسمية.
من المكونات الثقافية الرئيسة التي أثر عليها الغزو الثقافي هو الفن بكافة أنواعه وأشكاله. حيث يمكن للغزاة إحضار فنهم أيضًا وإسقاطه على فن السكان الأصليين. كما يمكن إضافة أو إزالة الثقافة من خلال التأثيرات المختلفة على الفنون المحلية. يمكن للثقافة تعزيز الحياة الاجتماعية ودعمها. يقلل الغزو الثقافي من تقاليد ومعايير السكان الأصليين دون الأخذ بعين الاعتبار للظروف الثقافية وظروف الحياة الاجتماعية والأغراض الاقتصادية. تزداد الهوة بسبب الصدمة الثقافية التي يسببها الغزو الثقافي. عند تعرض الحياة الاجتماعية والثقافية للتداخلات المتنوعة، فهذا يُحدث تأثير كارثي كبير على شخصية الأفراد.
يرتبط الفرد عاطفيًّا ونفسيًّا بالأعراف الثقافية والطقوس، ويخضع للسيطرة السياسية والاستعمار بشكل غير مباشر من خلال التجارة الدولية والتنمية الصناعية عند الترويج لها من قبل الدول القوية. كما تقع الدول فريسة للاستثمار الأجنبي المفرط خاصة في الدول النامية حيث تنتشر جوانب ثقافية معينة من الجهة المانحة للمساعدات المتلقي، متجاهلة ثقافة هذا الأخير. يمكن رؤية التأثير الأكثر بروزًا للغزو الثقافي مع القبائل الأصلية التي تم الاستيلاء على أوطانها من أجل التنمية الاقتصادية. وبسبب عدم قدرتهم على التكيف، يصبحون معتمدين بشكل كامل، ويسهل استغلالهم ويموتون من الفقر وسوء التغذية والمرض. حيثما يحدث الغزو الثقافي، يتم تمييز فقدان تنوع التراث الثقافي.
ولمواجهة قضايا الغزو الثقافي لا بد من معرفة الظاهرة في بداية وصولها أو حتى قبل دخولها البلاد. تخيل أن ظاهرة معينة وفكرة وأسلوبًا أصبح شائعًا في جميع أنحاء العالم. عالم اليوم هو عالم الاتصالات والتفاعلات ولا يمكننا بناء جدار للحماية من مثل هذه الظواهر.
هذا لا يعني أننا يجب أن نرفض دائمًا مثل هذه الظواهر الثقافية. في بعض الأحيان، هناك ظاهرة ما يمكن قبولها. في بعض الأحيان، هناك ظاهرة يمكن تحسينها أو يمكن تحديد إرشادات معينة لها. يمكن لهذه الإرشادات أن تحل المشكلة. إن التصرف في وقت متأخر والبحث عن العلاج والتفكير فيه سيؤدي لعواقب وخيمة. في مثل هذه الظروف فلا يجب علينا دائمًا اتخاذ موقف دفاعي بل نتخذ مواقف حازمة، هجومية وصحيحة. أسوأ شيء يمكن أن يفعله المرء في مواجهة الغزو الثقافي هو تبني موقف سلبي. حيث لا يوجد إجراء محدد يمكن اعتماده في هذا الصدد. يجب دراسة تلك الثقافات واختيار ما يناسب لنا ضمن الأعراف والتقاليد والمعتقدات التي نؤمن بها، أي أن نكون أكثر انفتاحُا ضمن الحدود التي نختارها. فيكون الغزو الثقافي لنا اختيار وليس قرار بالعنوة.