لا شك أن الانهيار هو ظاهرة طبيعية بالنسبة للحضارات، بغض النظر عن قوة الحضارة والمدى الذي استطاعت الوصول إليه، وانهيار الحضارات لا يعني أبدا اختفاء السكان، فحضارة المايا التي تأسست الفي عام قبل الميلاد والتي امتدت مدة ثلاثة آلاف سنة - كانت منتشرة في مساحة كبيرة، وجدت آثارها في خمس ولايات في جنوب شرق المكسيك وشمال جواتيمالا وأمريكا الوسطى والهندوراس وجواتيمالا ويوكاتان والسلفادور- انهارت ولا يزال في العالم نحو مليوني شخص منهم حتى يومنا هذا، اكتشف أراضيهم كريستوفر كولومبوس، وتلاها الغزو الإسباني على المنطقة، طمعا في الثروات الطبيعية فيها.
يمكن القول أن حضارة المايا كانت حضارة غريبة، فهي من أغنى المعالم الإنسانية، و الحضارة الأكثر تقدما في العالم في العصر ما قبل العصر الكولومبي، حيث نحتت المدن الحجرية الكبيرة وبنيت القصور والمعابد الهرمية والملاعب بدون أي معدات متقدمة أو عجلات، كما اشتهر المايا بكتاباتهم الهيروغليفية التصويرية وعلومهم المحيرة، فضلا عن مهارتهم في إعداد التقويم ذي الأعداد الطويلة والرياضيات وعلم الفلك والعمارة والفن والطب وبناء الأهرامات الضخمة المتناثرة، وفي كتاباتهم ألغاز وأسرار من العالم السفلي ومن آثارهم، تم اكتشاف قطع سبائك معدنية من الذهب شبيهة بالطائرات المجنحة مما يدل على تطورهم التكنولوجي، يقال أنها تشابه الطائرات الحديثة، و استعملت بين أفراد المايا كتمائم تزين صدور زعماء قبائل المايا، وتوجد الآن بعض هذه القطع في متحف كولومبيا و متحف الأجناس البشرية في برلين، ومتحف التاريخ الطبيعي في شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية.
اشتهروا أيضا بالزراعة و صناعة الفخار خاصة التماثيل الصغيرة، المصنوعة من الطين المحروق، واستطاعوا أن يشيدوا معابد كبيرة، و امتلكوا الصروح المعمارية، والممرات المنحوتة، التي اتسمت بها كل الأراضي في المناطق المنخفضة نسبيا.
وقد وصلوا إلى ذروة تأثيرهم خلال الفترة التي سميت بـ (الفترة الكلاسيكية)، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنها كانت تمارس السلطة السياسية والكهنوتية، والحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، فقد كان للكهنة أهمية كبيرة في حكومات وولايات شعب المايا، إلا أن السلطة كانت بيد المحاربين، وهي الفئة النبيلة في المجتمع.
ولكن بنهاية تلك الفترة، وفي واحد من أعظم الألغاز في التاريخ، قام شعب المايا فجأة بطرد ملوكهم، وهجروا مدنهم، وتوقفوا عن التطور والابتكار التكنولوجي، وقد تم طرح عشرات النظريات لشرح ما حدث، إذ يشير بعض المؤرخين على سبيل المثال الى أنه حصل في منطقتهم جفاف كبير وتفاقم الوضع بسبب ازالة الغابات وتآكل التربة باعتبارها دافعا رئيسيا للانهيار المجتمعي. بينما يلقي آخرون باللوم على الأوبئة وتمرد الفلاحين ضد الطبقة الحاكمة الفاسدة، والحروب التي اندلعت بين سكان المدن المختلفة أو انهيار الطرق التجارية بينها، ورغم انهيار حضارة المايا الا أن شعبها لم يختف أبدا، ولا يزال الملايين من أحفادهم الناطقين بلغة المايا الأصليين يسكنون في أنحاء العالم حتى يومنا هذا.