ماذا تعرف عن فقدان الذاكرة التفككي؟

لطالما كان النسيان هو عتبة الواقع التي نرمي على ضفافها أحمال القدر ونمضي بعدها نحاول أن نبني قلاع جديدة من أوهام الحياة التي تتخللها الذكرى في كل شقٍّ من شقوقها.

لكن ماذا لو كان النسيان هو السلسلة التي تحيط بالذاكرة وتجردها من تفاصيل الكون المعتق داخل زلالها، ليصدأ معها هيكل الحياة ويصبح القدر مجرد متاهة سرمدية تسجن الذاكرة وتحرر الذكريات نحو فضاء خالٍ من الذكرى.

"النائم لا يكبر في النوم" بتلك الكلمات عبر الشاعر محمود درويش عن بهجة النسيان العليا التي تمر بالإنسان كالطيف وتجعله غارقاً في تفاصيل الأحلام التي تمر عبر الذاكرة لأنها تذكرت ما نسيت من الغامض، فكيف لو أن هذا السبات التف حول اليقظة وأحاطت أسواره بكيان الفرد وجعلته أسيراً للفراغ.


ومن هنا نستطيع أن نصف هذه الحالة كأحد الاضطرابات التي تدعى فقدان الذاكرة التفككي أو الانشقاقي الذي يسبب مشاكل في الذاكرة لدى الفرد ويجعله أسيراً للنسيان، فما هو هذا الاضطراب وكيف يستطيع الفرد التغلب عليه؟

اضطراب الذاكرة التفككي هو عدم قدرة الفرد على تذكر أبرز المعلومات في حياته، أو عدم قدرته على تذكر أجزاء كبيرة من ماضيه وتاريخه وهويته، مما يجعله تائهاً في حياته لا يستطيع أن يتحكم في زمام أموره.

يمكن أن يكون هذا الاضطراب على عدة مستويات تتدرج من فقدان الذاكرة البسيط إلى العنيف، حيث يوجد ثلاث أنماط من هذا الاضطراب تختلف حسب شدة الأعراض التي تصيب المصاب حيث تصنف هذه الأنماط كالآتي:

-محدد
يؤثر هذا النمط من النسيان أو اضطراب الذاكرة التفككي على أجزاء محددة من حياة المصاب حيث أنه ينسى فترة معينة من حياته سواء كانت خلال فترة الطفولة أو أنه ينسى بعض الأشخاص المعينين في حياته، وغالباً ما يكون هذا النمط نتيجةً لحادث معين مر به المصاب وأثر به حيث إنه يستطيع تذكر أحداث اليوم الذي حدث به هذا الحادث لكنه لا يستطيع أن يتذكر الفترة التي حصل بها الحادث، وهنا يصنف فقدان الذاكرة على أنه محدد ومختص بفترة معينة أو شخص معين في حياة المصاب.

-عام
يؤثر هذا النوع من اضطراب الذاكرة التفككي على الفرد بشكل كبير حيث أنه يفقد ذاكرته المتعلقة بأجزاء كبيرة من حياته مثل أن ينسى المصاب اسمه وعائلته ووظيفته وغيرها من الأشياء الأساسية التي تسكن الذاكرة طويلة الأمد في ذهنه.

-الشرود
يؤثر هذا الاضطراب على المصاب بحيث أنه ينسى تفاصيل حياته بشكل عام ويتبنى هوية شخص آخر أو هوية جديدة، وغالباً ما يحدث عند عدم تحقيق المصاب لمبتغى معين قد رغب به بشدة، مثل أن ينتظر المصاب حدوث حدث معين في حياته لكنه لم يحصل عليه ونتيجة لذلك لم يعود إلى المنزل في هذا اليوم الذي يصادف خسارته لمبتغاه، وبعد فترة من البحث عنه نجده تبنى هوية جديدة ويعيش حياة مختلفة عن حياته كلياً وليس فقط لا يستطيع التعرف على أي أحد من حياته السابقة أو الحقيقية، ولكنه أيضاً لا يستطيع أن يفسر لماذا؟


هذه الأنماط تميز اضطراب الذاكرة التفككي وتجعله يختلف عن فقدان الذاكرة الناتج من مشاكل طبية وما يميزه أيضاً هو عودة الذاكرة بصورة قصيرة الندى حيث أن عودة الذاكرة في الاضطرابات الناتجة عن المشاكل الطبية يكون بطيء ونادر في أغلب الأحيان، لكن في الحالات الناتجة عن فقدان الذاكرة التفككي يكون احتمال عودة الذاكرة أكبر وغالبا ما يكون بشكل مفاجئ نتيجة للعلاج المستمر أو التعرض للأشياء التي كانت في محيط الذكرى المنسية.

وفي الغالب يكون سبب فقدان الذاكرة التفككي ناتج عن توتر عظيم أثر على نفسية المصاب نتيجة حادث أو حرب إساءات نفسية أو جسدية جعلت منه غارقاً في مسار قدره يبحث عن أثر يقوده نحو ضفاف بوابة النسيان الذي يستجيب لندائه ويحتضن ذكرياته ويتركه غارقاً في فراغه السرمدي، لذلك في أغلب حالات اضطراب فقدان الذاكرة التفككي يكون المصاب غير مبالي للنسيان الذي التف حول واقعة.


من وجهة نظري قد يمثل النسيان نوعاً من أنواع النعم التي ندق أبوابها كلما اشتد التفاف حبل الماضي على أعناق أرواحنا، لكن وبالرغم من الألم الناتج عن الجروح التي يتركها الماضي بداخل أفئدتنا، إلا أن آثار الندبات التي يتركها تمثل غبار الذكرى التي نستنشق عبيرها٬ ونتذكر من خلالها درساً ألقى حروفه القدر وأنشدته الذكرى كالصدى. 

      إن لم تصادف هكذا حالة على أرض الواقع فبالطبع هناك الكثير من الأفلام والأعمال التلفزيونية التي عرضت هكذا حالات. حيث يكون الشخص يمارس حياته بشكل عادي، وإذ به فجأة ينسى أمور مهمة جدًا تخصه. كأن ينسى اسمه وعائلته ووظيفته فجأة. أما فيما يختلف هذا النوع من فقدان الذاكرة عن فقدان الذاكرة الناتج عن أسباب طبية هو أنه مؤقت، حيث أن الذاكرة تعود فجأة وبصورة كاملة، ليس كالنوع الآخر من فقدان الذاكرة والذي يكون كنتيجة لإصابات الدماغ أو الجلطات، حيث أن عودة الذاكرة في هذه الحالة تكون نادرة وصعبة الحدوث، وإن عادت فإنها تكون بطيئة وتدريجية.

     يسمى هذا النوع من فقدان الذاكرة إما التفككي وإما التفارقي، وأحيانًا الانشقاقي. وقد يظهر على الشخص بشكل بسيط بعوارض خفيفة ثم تختفي ببساطة، وإما أن يكون عنيفًا لدرجة تأثيره على حياة الفرد ومنعه من ممارسة يومه العادي بشكل طبيعي. وعلى هذا الأساس فإنه ينقسم إلى ثلاثة أنواع. النوع المحدد، والذي ينسى فيه الفرد فترة محددة من ماضيه، أو معلومات حول شخص واحد محدد. وغالبًا ما يكون السبب وراء هذا النوع هو التعرض لصدمة تخص الحدث المنسي.

     أما النوع الثاني فهو فقدان الذاكرة العام، وفيه ينسى الشخص أمور هامة وكثيرة من حياته، مثل أن ينسى الشخص هويته تمامًا، ويصبح غير قادرًا على التعرف على بيئته وأصدقائه.

     أما الأغرب فهو هذا النمط الثالث، والذي يسمى الشرود. حيث يصيب الشخص فقدان ذاكرة تام، وتراه قد تبنى شخصية ثانية تمامًا بلا وعي منه. أي مثلًا أن يختفي شخص ما بلا سابق إنذار، وبعد فترة تكتشف أنه يعمل في وظيفة أخرى وتحت اسم آخر، إلا أنه لا يتذكر حقيقته، ولا يدري من هؤلاء الذين يبحثون هنه، ولا لما يفعلون ذلك.

     أسباب التعرض لهذا الفقد من الذاكرة غالبًا ما يكون احداث كبيرة تنزل ضغط وتوتر كبير على صاحبها. ويُقال أيضًا أن هنالك عامل وراثي يلعب دورًا في الأمر. أي أن إصابة أحد الأشخاص من العائلة قد يزيد من احتمالية إصابة الفرد بفقدان الذاكرة التفككي هذا.

     فيما يخص العلاج فإن الطرق عديدة وغالبًا ما تعتمد على الأسباب. فهنالك العلاج النفسي، والجدلي السلوكي، والأسري، والإدراكي السلوكي. ولربما يحتاج الطبيب في بعض الأحيان أن يصف مجموعة من الأدوية.

     غالبًا ما تعود الذاكرة بشكل مفاجئ لصاحبها، لكن هنالك من يأخذون أوقاتًا طويلة حتى يرجعوا إلى عهدهم. ولكن؛ هنالك أيضًا من لا يستعيدون ذاكرتهم أبدًا، وأولئك هم الفئة الأكثر ندرة.
 
http://my.clevelandclinic.org/services/neurological_institute/center-for-behavioral-health/disease-conditions/hic-dissociative-amnesia
http://www.nhs.uk/Conditions/dissociative-disorders/Pages/Introduction.aspx
http://www.mayoclinic.org/diseases-conditions/dissociative-disorders/basics/symptoms/con-20031012