هنا علينا التفريق ما بين البصر والنظر. فعندما تنظر، فإنك تحدّق وتقلّب في حدقة عينك لإدراك الصُّور وبه تبدأ مرحلة الإبصار، فهو أول مراتب الإبصار، الذي يكون بإدراك أشباح الصور ورموزها وانعكاساتها مع تحليل العصب البصري، فهو حاسّة الرؤية الواضحة للأشياء. أي أنّ الأمر يبدأ بالنظر ثم يتبعه البصر وينتهي بالرؤية. فحاسة البصر هي المدخل للقلب، ولربما نظرت نظرةً خاطفة لا تستطيع أن تفقه بها شيئًا، لكن عند الإبصار ستكون نظرتك أكثر عمقًا وتثبيتًا في القلب. واستعمال النَّظر في القرآن كان بالإرشاد إلى التأمُّل، فهو تقليبٌ للبصر مع استغراق وقت؛ إذ يُقاربه في المعنى الانتظار، فلا يكون النَّظر بسرعة بل بتمهل؛ لأنَّ الغاية من تقليب البصر وتحديق العين: الوصول إلى إدراك المنظور إليه؛ لتحصل منه الرُّؤية، وقد يراد به التأمُّل، والفحص، والمعرفة الحاصلة بعد الفحص؛ وهي الرويَّة، واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة.
ولغض البصر أهمية كبرى في حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل. ويكون ذلك بالصبر على المعاصي وتخليص القلب من التحسر، ويجعل في القلب نوراً ينعكس إشراقاً في الوجه والجوارح، وفي المقابل يورث إطلاق البصر إلى المحرمات ظلمةً في الوجه والجوارح جميعها، فيقول الله تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).
كما يورث غض البصر القلب صحة الفراسة؛ فيعرف بواطن وخفايا الأمور من ظواهرها. فمن غض بصره عن ما حرمه الله عوّضه الله تعالى بتنوير بصيرته، ومن أرسل وترك بصره نحو المحرمات، منع الله عنه نور البصيرة، وقد قال شجاع الكرماني رحمه الله: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال لم تُخطئ فراسته".